البعثة تعني الانبعاث لمحو آلام البشر
خاطب القرآن الكريم البشرية كلها بهذه الآية الشريفة: «لَقَد جآءَكم رَسولٌ مِن اَنفُسِكم عِزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكم»، وفي فقرتها الأخيرة «بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيم». آلام البشرية والمشكلات التي يعانيها الإنسان والمجتمعات البشرية ثقيلة على الروح المباركة لرسول الإسلام، حَريصٌ عَلَيكم، إنه مشتاق لهدايتهم وسعادتهم. البعثة لكل البشر. ثم تأتي تتمة لهذه الآية فيها طمأنة من القرآن للرسول الأكرم: «فَاِن تَوَلَّوا فَقُل حَسبِي اللهُ لآ اِلهَ اِلّا هُوَ عَلَيهِ تَوَكلتُ وَ هُوَ رَبُّ العَرشِ العَظيم»، خاطِب البشرية واعمل على صلاحها وإصلاحها، وتوكّل على الله الواحد الأحد، فكل شيء في يده والسنن الإلهية مسخّرة لخدمة هذه الحركة. نحن اليوم بحاجة إلى معنى البعثة، والبشرية بحاجة لها، وخصوصاً الأمة الإسلامية.
عيد المبعث عيد الانبعاث لمحو آلام البشر ومعاناتهم، فهو إذن عيد حقاً. الآلام البشرية الأساسية التي تواصلت واستمرت طوال التاريخ، وهي اليوم أيضاً مستمرة بأشكال متنوعة، هي عبودية غير الله، وسيادة الظلم واللاعدالة، والفوارق بين طبقات الناس، ومعاناة الضعفاء وعسف المتعسفين، هذه هي آلام البشرية المستمرة. هذه أحوال فرضت على البشر دوماً بدوافع العتاة الفاسدين المفسدين، والبعثة من أجل محو هذه الآلام وإزالتها. والواقع أن يوم المبعث يوم العودة إلى الفطرة الإلهية، لأن كل هذه الآلام والأوجاع والاعوجاجات مرفوضة في الفطرة الإلهية المودعة في أعماق البشر. الفطرة الإلهية المودعة في البشر هي مناصرة الحق ومناصرة العدل ومعاضدة الجهاد في سبيل المظلومين، هذه هي الفطرة الإنسانية.
~الإمام الخامنئي ٢٠١٦/٥/٥
جوهر البعثة، إزاحة الظلم والاستبداد بشعار التوحيد
إنَّ جوهر قضية البعثة بتمثل بالتوحيد، والتوحيد يعني عبودية الله تعالى بشكل حصري؛ بمعنى أن لا تسيطر الأهواء والنزوات والشهوات والغضب على حياة الإنسان، وأن لا يكون الاستبداد والدكتاتورية والأنانية هي التي تدير حياة الإنسان، ويكون مصدر إدارة حياة الإنسان العلم الإلهي والقدرة الإلهية والرحمة الإلهية والفيض الإلهي والهداية الإلهية. هذا هو معنى التوحيد. بالدرجة الأولى، كل أولئك الذين يريدون بأنانياتهم وتكبّرهم واستبدادهم وظلمهم أن يسيطروا على شؤون المجتمعات البشرية، سوف يزاحون [يُزالون] بشعار التوحيد، ولذلك يعادون هذا الشعار. «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا» (2). واجه كل الأنبياء والرسل أصحابَ المال والتعسف ومستبدي العالم وعتاته وفراعنته وجابهوهم وكافحوهم. من دون الكفاح الذي يخوضه الحق لن يضطر الباطل إلى التراجع. تقدُم البشرية يوماً بعد يوم منذ فجر التاريخ الإنساني وإلى اليوم واقترابها نحو المعارف الإلهية أكثر فأكثر إنما كان بفعل الكفاح، فالحق يجب أن يكافِح. «الَّذينَ آمَنوا يقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ وَالَّذينَ كفَروا يقاتِلونَ في سَبيلِ الطّاغوتِ» (3). من دون الكفاح ضد المستبدين والعتاة والمسيئين للبشرية والظالمين والجائرين لا يمكن التقدم بالحق، لا بدّ من كفاح وهذا ما قام به الأنبياء، والتوحيد يتضمن المعالم العامة والأصول والخطوط الأصلية لهذا الكفاح.
~الإمام الخامنئي ٢٠١٨/٤/١٤
بعثة رسول الأكرم كانت دعوة إلى النور وسط الظلمات والخرافات
تكمن أهمية عيد المبعث في أن هذه البعثة التي حصلت تنطوي على علاقة حية جديدة بين الله وخلقه، وعلى برنامج جديد لتحول المجتمعات البشرية والإنسان. هذه البعثة، وهذا البرنامج، وهذا التحول، يمتلك في قرارته، وفي كل الفترات والأحقاب والأحوال وفي جميع مناطق الجغرافية من العالم، يمتلك القدرة على تغيير حياة الناس نحو السعادة والفلاح والحسنى في الزمن الحاضر كما استطاع تغيير حياة البشر في تلك الحقبة الأولى. هنا تكمن أهمية البعثة.
يقول الإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) إن العالم كان مظلماً عندما بعث الله تعالى النبي الأكرم بالرسالة «وَالدُّنيا كاسِفَةُ النّورِ ظاهِرَةُ الغُرور» (2). كان عالم البشرية غارقاً في الظلام ومشحوناً طافحاً بالغرور. والغرور هنا بمعنى خداع الذات، كأنْ يتصور الإنسان نفسه ويتوهمها في وضع ما، ولا يكون الواقع على ما يتصور. كان العالم يعيش مثل هذا الوضع. وقد جعل القرآن الكريم فلسفة الوحي الإلهي: «لِيخرِجَكم مِنَ الظُّلُماتِ اِلَى النُّور» (3)، يخرج البشرية من الظلمات ويدخلها في النور.
لقد كانت ظلمات تلك الحقبة منعكسة ومتجسدة في التاريخ إلى حد كبير، سواء في نفس بيئة الجزيرة العربية ومكة وما حولها حيث عمّت الخرافات والجهل والقسوة والعنف وانعدام العدل والتعسف ومنطق القوة والحياة الوضيعة والجوع، أو في العالم المتحضر آنذاك. لو نظرتم إلى موقعين أساسيين للحضارة الكبرى في ذلك الزمن، أي إيران وبلاد الروم في ذلك العهد، لشاهدتم هذا الظلام والتعاسة هناك أيضاً. لقد سادت الخرافات والظلمات والتمييز وانعدام العدالة والقسوة ضد الضعفاء على تلك الإمبراطوريتين أيضاً. الملك الذي عُرف بالعدالة في إيران - وهو أنوشيروان المعروف بالعادل - قتل في يوم واحد عدة آلاف من البشر لأنهم حسب ما يقال كانوا مزدكيين يعتنقون ديناً آخر. قتل عدة آلاف من البشر في يوم واحد. هذا نموذج واحد. والملك في الإمبراطورية الرومانية - وهو نيرون المعروف - قتل أمه وقتل زوجته وأحرق المدينة. هكذا كان الناس: «وَالدُّنيا كاسِفَةُ النّورِ ظاهِرَةُ الغُرور». إذن، لم تكن هذه الحالة خاصة بجزيرة العرب بل لقد عمت العالم كله. في مثل هذه الظروف أشرقت شمس الإسلام.
لقد كانت دعوة الإسلام دعوة إلى النور، أي إنها دعوة إلى العلم، وإلى الإنصاف، وإلى المحبة، وإلى الوحدة، وإلى العدالة، وهذه كلها أنوار في حياة المجتمعات البشرية. المهم هو أن لا تبقى هذه الدعوة على الألسن أو على الورق. واليوم أيضاً لو نظرتم في وثائق منظمة الأمم المتحدة أو حتى وثائق بعض البلدان المستكبرة لوجدتم شيئاً من هذا الكلام الجميل. أنظروا لميثاق حقوق الإنسان وباقي الوثائق والأشياء تجدون فيها نفس هذه الآراء والأفكار الحسنة، ولكن لا يوجد لها أثراً في عالم الواقع.
تكمن أهمية الإسلام في أن ما قاله الرسول الأكرم (ص) منذ اليوم الأول وما علمته الآيات القرآنية للناس تباعاً طوال الأعوام الثلاثة عشر من الجهاد والنضال الصعب في مكة تم تطبيقه بعد ذلك في المرحلة العملية، وجرى إثباته والعمل به. لقد أثبت الرسول الأكرم (ص) تلك العدالة، وتلك المحبة، وذلك الإنصاف، وذلك الصمود بوجه الظلم وبوجه الكفر، أثبته بشكل عملي.
~الإمام الخامنئي ٢٠١٧/٤/٢٥